فصل: مسألة الصلاة في المسجد الجامع في الرداء والسراويل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة التكبير في الأذان:

قال: وسأله ابن كنانة عن التكبير في الأذان أهو مثل الإقامة الله أكبر الله أكبر مرتين؟ أم الله أكبر الله أكبر أربع مرات؟ فقال: لا، هو مثله في الإقامة، اكتب إليه: هو مثل ما يؤذن الناس عندنا اليوم.
قال المؤلف: اختلف أهل العلم من الأذان في موضعين: أحدهما: التكبير في أوله هل هو مثنى أو مربع، والثاني: الترجيع في الشهادة، فذهب أهل العراق إلى أن التكبير في أول الأذان مربع على ما روي عن أبي محذورة أن «النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علمه الأذان تسع عشرة كلمة: الله أكبر الله أكبر الله أكبر...» الحديث إلى تمام الأذان، وإلى أنه لا ترجيع في الشهادة؛ إذ لم يذكره في حديث عبد الله بن زيد في الأذان. قالوا: فلما لم يذكره فيه احتمل عندنا أن يكون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما أمر به أبا محذورة؛ لأنه لم يمد به صوته أولا على ما أراد، وذهب مالك رَحِمَهُ اللَّهُ إلى أن التكبير في الأذان مثنى وإلى الترجيع في الشهادة، والحجة له مع أن ذلك قد روي عن أبي محذورة، فكان ما فيه من الترجيع زيادة على غيره من الأحاديث اتصال العمل به بالمدينة منذ وفاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما اتصل به العمل من الأخبار فهو أولى مما لم يتصل به عمل منها؛ لأن ذلك يقتضي أنه هو الناسخ لها، والله أعلم.

.مسألة التثويب في رمضان وغيره:

قال: وسئل عن التثويب في رمضان وغيره، فقال: ليس ذلك بصواب، وقد كان بعض أمراء المدينة أراد أن يصنع ذلك حتى نهي عنه فتركه.
قال محمد بن رشد: التثويب الذي أنكره مالك وقال: إنه ليس بصواب، وحكى ابن حبيب وغيره عنه أنه قال فيه: إنه ضلال- هو ما أحدثه الناس بعد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أن المؤذن كان إذا أذن فأبطأ الناس قال: بين الأذان والإقامة قد قامت الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح. روي عن مجاهد أنه قال: دخلت مع عبد الله بن عمر مسجدا وقد أذن، ونحن نريد أن نصلي فيه، فثوب المؤذن، فخرج عبد الله بن عمر من المسجد وقال: اخرج بنا من عند هذا المبتدع، ولم يصل فيه، وذلك بين من قوله في رواية ابن وهب عنه في المجموعة، وهو نحو مما كان يفعل عندنا بجامع قرطبة من أن يعود المؤذن بعد أذانه قبل الفجر النداء عند الفجر بقوله: حي على الصلاة حي على الفلاح ثم ترك. وقيل: إنه إنما عنى بذلك قول المؤذن في أذانه حي على خير العمل؛ لأنها كلمة زادها في الأذان من خالف السنة من الشيعة. وروي أن علي بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كان يقول ذلك في أذانه بعد حي على الفلاح. قال ابن حبيب: وهو خاص، ومن أحب أن يقوله فلا حرج، ولا يحمل عليه العامة. والأول هو التأويل الصحيح، يشهد له ما وقع في المجموعة وأن التثويب في اللغة هو الرجوع إلى الشيء، يقال: ثاب إلي عقلي، أي: رجع، وثوب الداعي: إذا كرر النداء، ومنه قيل للإقامة تثويب؛ لأنها بعد الأذان. قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا ثوب بالصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون». وقد يقع التثويب على قول المؤذن في أذان الصبح: الصلاة خير من النوم، روي عن بلال أنه قال: قال لي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تثويب في شيء من الصلوات إلا في صلاة الفجر». وليس هذا التثويب الذي كرهه أهل العلم؛ لأنه من السنة في الأذان، وبالله التوفيق.
ومن كتاب الصلاة الأول:

.مسألة كم الوقت الذي يجب فيه النزول إلى الجمعة والعيدين:

قال أشهب: قيل لمالك: كم الوقت الذي يجب فيه النزول إلى الجمعة والعيدين؟ فقال: أرى أن الذي يجب فيه النزول إلى الجمعة فرسخ، وهو ثلاثة أميال فما دونها. وإنما أخذنا ذلك من قبل أن أهل العالية كانوا ينزلون يوم الجمعة إلى الجمعة على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من العالية، وأقصى العالية على ثلاثة أميال، ولم يعلم أن من وراءهم نزلوا ولا لزمهم ذلك. قيل له: وكذلك النزول إلى العيدين؟ قال: نعم وأرى الذي يجب في النزول إلى العيدين ثلاثة أميال فدون ذلك، ولقد رأيت ناسا من ولد عمر بن الخطاب ينزلون للعيدين من ذي الحليفة، وما ذلك على الناس، وليس العيدان كالجمعة؛ لأن العيدين إنما يكونان في الزمان والجمعة تكون في كل سبعة أيام.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه الرواية: إن النزول يجب إلى الجمعة وإلى العيدين من ثلاثة أميال فدون خلاف قوله في المدونة: إنها إن كانت زيادة يسيرة فأرى ذلك عليه، والذي في المدونة أولى؛ إذ ليس الحد في ذلك بنص، وإنما أخذ بالاجتهاد والتأويل من فعل أهل العالية. وقد روى علي بن زياد عن مالك أنه إنما ينزل إليها من ثلاثة أميال؛ لأنه منتهى صوت المؤذن، وهذا لمن كان خارج المصر؛ لقوله عز وجل: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]. وأما من كان في المصر الكبير فتجب عليه الجمعة، وإن كان بين منزله والجامع ستة أميال، وكذلك روى ابن أبي أويس وابن وهب عن مالك. والثلاثة الأميال تعتبر على ظاهر رواية علي بن زياد عن مالك من موضع المؤذن، وقيل: إنها تعتبر من طرف المدينة حيث يقصر الخارج ويتم الداخل، وهو قول محمد بن عبد الحكم. وقد روي عن رجل من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أهل قباء أنه قال: «أمرنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نشهد الجمعة من قباء». وروي عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «الجمعة على من آواه الليل إلى أهله» إلا أنه حديث لا يصح، قد ذكره أحمد بن الحسن لأحمد بن حنبل فقال له: استغفر ربك استغفر ربك. والخليقة بالقاف وهي خليقتان: خليقة آل عمر، وخليقة آل المنكدر، وبالله التوفيق.

.مسألة ما يعلق في أعناق النساء من القرآن وهن حيض:

قال: وسئل عما يعلق في أعناق النساء من القرآن وهن حيض، فقال: ليس بذلك بأس إذا جعل في كن في قصبة حديد أو جلد يخرز عليه، وكذلك الصبيان فلا أرى بذلك بأسا. قلت: أرأيت إن علق عليها هكذا ليس عليه شيء يكنه، فقال: ما رأيت من يفعل ذلك، وليس يفعل هذا، قيل له: أفرأيت الحبلى يكتب لها الكتاب تعلقه؟ قال: أرجو أن لا يكون بذلك بأس إذا كان ذلك من القرآن وذكر الله شيئا معروفا، وأما ما لا يدرى ما هو والكتاب العبراني وما لا يعرف فإني أكرهه، قيل له: أفترى أن يعقد في الخيط سبع عقد؟ فكرهه.
قال الإمام: إنما استخف ما يعلق في أعناق الصبيان والحيض من النساء من القرآن مع أن السنة قد أحكمت أن لا يمس القرآن إلا طاهر إكراما له من أجل أن ذلك شيء يسير منه. وقد مضى وجه الفرق بين جملته وبعضه في رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم من كتاب الوضوء، فمن أحب الوقوف عليه تأمله هناك. وإنما شرط في إجازة ذلك أن يكون في كن من قصبة حديد وشبه ذلك؛ صيانة له أن تصيبه نجاسة أو أذى؛ لأن لذلك عنده تأثيرا في جواز مسه على غير طهارة؛ لأنه لا يجوز لغير الطاهر حمل المصحف بعلاقته ولا على وسادة، وكره أن يعلق على الحبلى الكتاب بما لا يدرى، وبالعبراني الذي لا يعرف ما هو؛ لأن الاستشفاء إنما يكون بكلام الله تعالي وبأسمائه الحسنى وبما يعرف من ذكره جل جلاله وتقدست أسماؤه. وأما العقد في الخيط فكرهه؛ لأن الرقى إنما تكون بذكر الله لا بما أمر الله بالاستعاذة منه من فعل السواحر اللائي ينفثن على العقد يرقيها، قال تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق: 4]. وفي جواز تعليق هذه الأحراز والتمائم على أعناق الصبيان والمرضى والحبالى والخيل والبهائم إذا كانت بكتاب الله تعالى وما هو معروف من ذكره وأسمائه، للاستشفاء بها من المرض، أو في حال الصحة لدفع ما يتوقع من العين والمرض- بين أهل العلم اختلاف، فظاهر قول مالك في هذه الرواية إجازة ذلك، وروي عنه أنه قال: لا بأس بذلك للمرضى، وكرهه مخافة العين وما يتقى من المرض للأصحاء.
وأما التمائم بغير ذكر الله تعالى وبالكتاب العبراني وما لا يعرف ما هو فلا يجيزه بحال، لا لمريض ولا صحيح؛ لما جاء في الحديث من أن «من تعلق شيئا وكل إليه»، «ومن علق تميمة فلا أتم الله له، ومن علق ودعة فلا ودع الله له»؛ ولما رواه في موطاه من «أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث في بعض أسفاره رسولا والناس في مقيلهم: لا تبقين في رقبة بعير قلادة من وبر أو قلادة إلا قطعت». ومن أهل العلم من كره التمائم ولم يجز شيئا منها بحال ولا على حال؛ لما جاء من هذه الآثار، ومنهم من أجازها في المرض ومنعها في حال الصحة لما يتقى منه، أو من العين على ما روي عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أنها قالت: ما علق بعد نزول البلاء فليس بتميمة.
وقول مالك في هذه الرواية أولى الأقوال بالصواب من جهة النظر؛ إذ يبعد إجازة تعليق تميمة لا ذكر لله فيها في حال من الأحوال، ولا وجه من طريق النظر للتفرقة فيما كان منها بذكر الله بين الصحة والمرض إلا اتباع قول عائشة في ذلك، إذ لا تقوله رأيا، والله أعلم. وقوله الثاني أتبع للأثر؛ لاستعمال الآثار كلها بحمل النهي على ما ليس فيه ذكر الله تعالى، وقول عائشة على ما كان منها بذكر الله، وبالله تعالى التوفيق.

.مسألة صلى خلف رجل فلما قضى صلاته وجد منه ريح نبيذ:

وسئل عمن صلى خلف رجل، فلما قضى صلاته وجد منه ريح نبيذ، فقال: إن كان لم يستنكر شيئا من عقله ولا صلاته فلا أرى أن يعيد، لعله نبيذ لا بأس به.
قال محمد بن رشد: قوله: إن كان لم يستنكر شيئا من عقله ولا صلاته فلا أرى أن يعيد، يدل على أنه لو استنكر شيئا من ذلك لوجبت عليه إعادة الصلاة، وذلك صحيح؛ لأن السكران لا تجوز صلاته لنفسه، إذ لا تصح منه نية؛ لذهاب عقله، فلا تجوز صلاته لغيره، فمن صلى خلفه أعاد، قاله مالك في المدونة. وفي هذا الرسم متصلا بهذه المسألة في بعض الروايات يعيد في الوقت وبعده، قاله سحنون وأصبغ، وفي قوله: لعله نبيذ لا بأس به دليل على أنه لو تيقن أنه نبيذ مسكر لوجبت عليه الإعادة وإن لم يكن سكر منه، وهذا صحيح على أصل مذهبه في أن ما أسكر كثيره من الأشربة فقليله حرام كالخمر، يجب فيه الحد وإن لم يبلغ به حد السكر، وتسقط به شهادته، ويجب على من ائتم به إعادة صلاته كمن أتم بشارب الخمر على ما قال ابن وهب في سماع عبد الملك أو بفاسق معلن بالفسق من أجل أنه لا يؤتمن على ما لا تصح الصلاة إلا به من الوضوء والنية وشبه ذلك، ولا يراعى في ذلك مذهب أهل العراق فيعذر أحد به؛ لبعده عن الصواب ومخالفته لما صح وثبت من الآثار، وبعده في النظر والاعتبار.

.مسألة أيصلي بعد المغرب في الليلة المطيرة التي يجمع فيها بعد المغرب نافلة:

وسئل: أحب إليك أن تصلي بعد المغرب في الليلة المطيرة التي يجمع فيها بين الصلاتين بعد المغرب نافلة؟ أم تثبت كما أنت حتى تصلي العشاء؟ قال: بل أثبت كما أنا ولا أتنفل حتى أصلي العشاء. وإنما جمع بين المغرب والعشاء للرفق بالناس، ولئلا ينقلبوا ثم يرجعوا إلى العشاء.
قال محمد بن رشد: الوجه فيما اختاره مالك من ترك التنفل بعد المغرب إذا جمع بين الصلاتين هو أنه لو أبيح ذلك للناس لكثر ذلك من فعلهم، فكان سببا لتأخير صلاة العشاء ذريعة إلى ألا ينصرفوا إلا بعد الظلام، وإنما أريد بالجمع الرفق بالناس لينصرفوا وعليهم إسفار. وهذا من نحو المنع من التنفل في المسجد بعد غروب الشمس قبل صلاة المغرب، وبالله التوفيق.

.مسألة الرجل يقرأ القرآن في اللوح وهو غير متوضئ:

وسئل عن الرجل يقرأ القرآن في اللوح وهو غير متوضئ، فقال: لا أرى أن يمسه.
قال محمد بن رشد: معناه إذا كان يقرأ فيه على غير وجه التعليم؛ لأنه قد خففه في رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم من كتاب الوضوء إذا كان على وجه التعليم، ومضى هناك القول على وجه تخفيفه، وحمل كلامه على أن بعضه مفسر لبعض أولى من حمله على الخلاف ما أمكن ذلك، وبالله التوفيق.
ومن كتاب الأقضية الثالث:

.مسألة تفوته ركعة من صلاة الظهر فيقوم لقضائها قبل سلام الإمام:

قال: وسئل مالك عن الرجل تفوته ركعة من صلاة الظهر مع الإمام، فيصلي معه ثلاث ركعات، فإذا جلس الإمام في الرابعة قام فقضى تلك الركعة قبل أن يسلم، جهل ذلك، قال مالك: أرى أن لا يعتد بتلك الركعة، ثم ليجلس مع الإمام حتى يسلم، فإذا سلم قام فقضى تلك الركعة وسجد سجدتين بعد السلام.
قال محمد بن رشد: قوله: جهل ذلك، يريد أنه جهل أن الإمام لم يسلم وظن أنه قد سلم؛ لأنه جهل أن القضاء لا يكون إلا بعد سلام الإمام. ولو جهل ذلك فصلى الركعة قبل سلام الإمام جهلا لأفسد صلاته. وفي المبسوطة لابن نافع أنه يعتد بها ويجزيه، وهو نحو ما لابن القاسم في رسم باع شاة من سماع عيسى، وذلك شذوذ، وإنما الاختلاف المشهور فيمن صلى في حكم الإمام إذا لم يدرك في صلاته شيئا، ذكر ذلك ابن المواز في كتابه، فتدبر ذلك. وقوله: سجد سجدتين بعد السلام خلاف ما في المدونة وخلاف المشهور في المذهب من أن كل سهو يكون من المأموم في حكم صلاة الإمام يحمله عنه الإمام، وبالله التوفيق.

.مسألة الرجل يدخل المسجد فيجد الإمام في الركعة أيركع دون الصف:

وسئل عن الرجل يدخل المسجد فيجد الإمام في الركعة، وهو منه على مثل ما يجوز للرجل أن يركع فيه مع الإمام من البعد، فيركع مع الإمام ويريد أن يمشي إلى أن يصل إلى الصفوف، قال: لا يمشي حتى يفرغ من سجود تلك الركعة، ولا يمشي فيما بين الركوع والسجود، ولا يجعل بينه عمل.
قال الإمام: قوله: وهو منه على مثل ما يجوز للرجل أن يركع فيه مع الإمام من البعد، أي: وهو منه على مثل ما يجوز للرجل أن يركع فيه معه من البعد، فيدب راكعا إلى الصف، فمعنى المسألة أنه إذا كان على هذا الحد من البعد فركع دون الصف، وعجل الإمام بالرفع قبل أن يصل إلى الصف، أنه لا يمشي حتى يفرغ من سجود تلك الركعة. وقد مضى القول في هذه المسألة مستوفى في أول رسم اغتسل من سماع ابن القاسم، فقف على ذلك وتدبره، وبالله التوفيق.
ومن كتاب الصلاة الثاني:

.مسألة الصلاة خلف الإباضية والواصلية:

قال: وسئل عن الصلاة خلف الإباضية والواصلية، فقال: ما أحبه، فقيل له: فالسكنى معهم في بلادهم؟ فقال: ترك ذلك أحب إلي.
قال محمد بن رشد: الإباضية والواصلية فرقتان من فرق الخوارج الذين أعلم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخروجهم على المسلمين ومروقهم من الدين. وقوله في الصلاة خلفهم: لا أحبه، يدل على أنه لا يرى الإعادة على من صلى خلفهم، وهو قول سحنون وكبار أصحاب مالك، وقيل: إنه يعيد في الوقت، وهو قول ابن القاسم في المدونة، وقيل: إنه يعيد في الوقت وبعده، وهو قول محمد بن عبد الحكم، وقاله ابن حبيب، إلا في الوالي أو خليفته على الصلاة؛ لما في ترك الصلاة خلفهم من الخروج عليهم وما يخشى في ذلك من سفك الدماء. وقد تأول بعض الشيوخ ما في المدونة لمالك على عكس تفرقة ابن حبيب؛ لقوله: وأرى إن كنت تتقيه وتخافه على نفسك أن تصلي معه وتعيد ظهرا أربعا، والتفرقة بين ذلك استحسان، وكذلك الإعادة في الوقت، فالخلاف في ذلك على وجه القياس راجع إلى قولين: إيجاب الإعادة أبدا على القول بأنهم يكفرون بمآل قولهم، وإسقاط الإعادة جملة على القول بأنهم لا يكفرون بمآل قولهم، وهذا فيما كان من الأهواء والبدع محتملا للوجهين؛ إذ منها ما هو كفر صريح فلا يصح أن يختلف في أن الإعادة على من صلى خلفهم، ومنها ما هو هوى خفيف لا يؤول بمعتقده إلى الكفر، فلا يصح أن يختلف في أن الإعادة غير واجبة على من صلى خلفهم، هذا وجه القول في هذه المسألة، وإن كانت الروايات إنما جاءت في ذلك مجملة، وكره السكنى معهم في بلادهم؛ لوجوه ثلاثة: أحدها: مخافة أن ينزل عليهم من الله سخط فيصيبه معهم، والثاني: مخافة أن يظن أنه معهم فيعرض نفسه لسوء الظن به، والثالث: مخافة أن يسمع كلامهم فيدخل عليه شك في اعتقاده لشبههم.

.مسألة الطويل الشعر يعتم على شعره بعمامة ثم يصلي بها:

وسئل عن الطويل الشعر يعتم على شعره بعمامة ثم يصلي بها، فقال: أما أن يكتفه فإنه يكره، وأما أن يستدفئ فلا بأس به.
قال المؤلف: إنما كره أن يكتف شعره في الصلاة لما روي «أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى أن يصلي الرجل وشعره معقوص»، ولقول ابن مسعود: إن الشعر يسجد معه وله بكل شعرة أجر، وذلك لا يكون رأيا، وهو مثل ما في المدونة، وبالله التوفيق.

.مسألة الركاب في السفينة لا يقدرون على الركوع والسجود:

وسئل عن الركاب في السفينة لا يقدرون على الركوع والسجود إلا أن يركع أحدهم على ظهر صاحبه ويسجد، فقال لم يركبونها؟ فقيل: إلى الحج والعمرة، فقال: ما أرى أن يركبوها لحج أو عمرة، أيركب حيث لا يصلي! ويل لمن ترك الصلاة.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن السجود من فرائض الصلاة، فإذا علم أنه لا يقدر في السفينة على السجود إلا على ظهر صاحبه، فلا ينبغي له ركوبها في حج ولا عمرة؛ لأنه لا يدخل على نافلة من الخير لمعصية، فإن فعل وصلى فيها وسجد على ظهر أخيه أعاد أبدا على قوله؛ لأنه قد جعل ذلك كتركه للصلاة، وهو يأتي على مذهب ابن القاسم في المدونة في الذي يقدح الماء من عينيه فيصلي إيماء أنه يعيد أبدا. وقال أشهب: لا إعادة عليه، وكذلك يقول في الذي لا يقدر في الزحام على سجود إلا على ظهر أخيه: إنه لا يعيد إلا في الوقت. ووجه ذلك أن الفرض عنده قد انتقل إلى الإيماء من أجل الزحام، فكان كالمريض الذي لا يستطيع السجود، فرفع إلى جبهته شيئا أومأ إليه فسجد عليه أن ذلك يجزيه، وهو عند مالك بخلاف المريض يعيد أبدا إن لم يسجد إلا على ظهر أخيه أو إيماء، فإن كان مع الإمام فلم يقدر على السجود إلا إيماء أو على ظهر أخيه حتى قام الإمام، سجد ما لم يعقد الإمام عليه الركعة التي تليها، وإن كان ذلك في الركعة الأخيرة سجد ما لم يسلم أو ما لم يطل الأمر بعد سلامه على الاختلاف في سلام الإمام هل هو كعقد ركعة أم لا.

.مسألة الجماعة إذا كانت بموضع فلا يجوز لها أن تفترق طائفتين:

وسئل عن القوم يكونون في السفينة فينزل بعضهم ويبقى بعضهم، فيقيم الذين بقوا في السفينة الصلاة، ثم يجيء الذين كانوا نزلوا، أيجمعون تلك الصلاة في السفينة؟ فقال برأسه: لا، فروجع فيها فقال: إنما سأل الجمع مرتين فيها، ثم قال برأسه لا.
قال محمد بن رشد: وهذا بين؛ لأن الجماعة إذا كانت بموضع فلا يجوز لها أن تفترق طائفتين، فتصلي كل طائفة منها بإمام على حدة؛ لقول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 107]. ألا ترى أن الله تبارك وتعالى لم يبح ذلك للغزاة مع شدة الخوف، وشرع لهم أن يجتمعوا على إمام واحد، وكذلك أهل السفينة لا يجوز لهم أن يفترقوا على طائفتين في الصلاة، فلما كان ذلك لا يجوز لهم كره للذين نزلوا إذا جاؤوا أن يجمعوا الصلاة لأنفسهم إذا كان الذين بقوا قد جمعوا تلك الصلاة؛ لئلا يكون ذلك ذريعة إلى ما لا يجوز من تفرقة الجماعة، لاسيما إن كان الذين بقوا إنما جمع بهم إمام راتب لهم، وأجاز في المدونة أن يصلي الذين فوق سقف السفينة بإمام والذين تحته بإمام آخر؛ لأنهما موضعان، فليس ذلك بخلاف لهذه الرواية، والله أعلم.

.مسألة حكم التبسم في الصلاة:

وسئل عمن تبسم في الصلاة، فقال: يسجد سجدتي السهو، فقلت له: أقبل السلام أم بعده؟ فقال لي: قبل السلام.
قال محمد بن رشد: أوجب في هذه الرواية سجود السهو قبل السلام في التبسم، ولم يفرق بين أن يكون متعمدا أو جاهلا أو مغلوبا أو ناسيا يرى أنه في غير صلاة، ووجه ذلك أنه أسقط الخشوع فهو في النسيان أظهر فيما عداه، فيحتمل أن يكون ذلك وجه ما أراد على ما في المدونة، وفي رسم البراءة من سماع عيسى لا سجود عليه ناسيا كان أو متعمدا. وقد نص على ذلك في سماع عيسى فقال: لو كان عليه سجود السهو إذا نسي لكان عليه إعادة الصلاة إذا تعمد، وهو الصواب؛ إذ لا سجود على من التفت في صلاته أو عبث فيها بيده أو سوى الحصباء بنعله، أو فعل ما أشبه ذلك مما يفعله في الصلاة ترك الخشوع فيها ناسيا كان أو متعمدا باتفاق، وسيأتي التكلم على حكم القهقهة في الصلاة في رسم استأذن ورسم البراءة من سماع عيسى إن شاء الله، وبه التوفيق.

.مسألة دخل مع الإمام في صلاته فسها لكثرة الناس عن الركوع مع الإمام:

وسئل عمن دخل مع الإمام في صلاته فسها لكثرة الناس عن الركوع مع الإمام، وربما كان ذلك يوم الجمعة، فسها عن الركوع حتى رفع الإمام رأسه من الركعة، فيعلم بذلك بعد أن يرفع الناس رؤوسهم، أيعتد بها؟ فقال: إن أدركه وهو ساجد فليعتد بها، وإن لم يدركه حتى رفع رأسه من السجود فأحب إلي أن يقضي الركعة.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة مستوفى في رسم كتب عليه حق من سماع ابن القاسم، فلا وجه لإعادته ها هنا، وتأتي متكررة في رسم نقدها، ورسم لم يدرك من سماع عيسى، وبالله التوفيق.

.مسألة الصلاة في المسجد الجامع في الرداء والسراويل:

قال: وسئل عن الصلاة في المسجد الجامع في الرداء والسراويل، فقال: لا والله إن الصلاة في السراويل لقبيحة، فقيل له: أرأيت لو توشح الرداء فصلى فيه؟ فقال: ما السراويل من لباس الناس، وكره ذلك، قال: وإنما يصنع ذلك ضعفة الناس، وليست السراويلات من ثياب الناس التي يظهرون إلا أن تكون تحت القميص. قال: ولقد كنت ألبسه فما كنت ألبسه إلا بعد القميص، إن الحياء من الإيمان.
قال القاضي: هذا كما قال، إن تردي الرداء وتوشحه على السراويل دون قميص مما يستقبح من الهيئة في اللباس، ولا يفعله إلا ضعفة الناس؛ لأن السراويل تصف ولا تستر كما يستر الإزار الذي يعطف بعضه على بعض، فلا ينبغي لأحد أن يصلي في المسجد الجامع في الرداء والسراويل دون قميص، تردى الرداء أو توشحه، وإن كان توشحه أخف لكونه أستر؛ لأن التجمل في الصلاة بحسن هيئة اللباس مشروع، قال الله عز وجل: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]. وروي عن مالك أنه قال في تفسير ذلك: معناه لتأخذوا لباسكم عند كل صلاة، قيل له: أفمن ذلك مساجد البيوت؟ قال: نعم. وقد سئل عمر بن الخطاب عن الصلاة في ثوب واحد، فقال: إذا أوسع الله عليكم فأوسعوا على أنفسكم جمع رجل عليه ثيابه، الحديث. وقال عبد الله بن عمر لنافع مولاه، وقد رآه يصلي في ثوب واحد: إذا صليت فخذ عليك ثوبا آخر، فإن الله أحق من تجملت له. هذا هو المختار المستحب عند أهل العلم كلهم، ولو صلى في ثوب واحد إزارا كان أو قميصا أو سراويل لأجزأته صلاته، وروي عن أشهب أن من صلى في السراويل وحدها وهو يجد الثياب، يعيد في الوقت، قال: وكذلك من أذن في السراويل وحدها أعاد أذانه ما لم يصل، فإن صلى لم يعد، وكان كمن صلى بغير أذان.

.مسألة العجمي يصلي ولا يعرف القرآن:

قال: وسئل عن العجمي يصلي ولا يعرف القرآن، قال: ينبغي أن يتعلم، فأما أن يصلي ولا يعرف فهو يصلي ولا يعرف.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، إن العجمي الذي لا يعرف القرآن- أي: لا يحفظ شيئا منه- ينبغي له أن يتعلم ما يصلي به ولا يتوانى في ذلك؛ لأن القرآن من فروض الصلاة، وينبغي له أن لا يصلي وحده ما لم يتعلم ما يصلي به، فإن صلى وحده بغير قراءة وهو يجد من يأتم به ممن يحسن القرآن أي: يحفظه، لم تجزه صلاته وأعادها، قاله ابن المواز. وإن ائتم به أحد أعاد الصلاة، قاله ابن القاسم في المدونة. وكتاب ابن المواز في الذي لا يحسن القرآن أي: لا يحفظ شيئا منه ولا يعرفه، قال ابن المواز: ويعيد هو أيضا؛ لتركه الائتمام به. وقد اختلف في الذي يحسن القرآن، أي: يحفظه ولا يحسن قراءته ويلحنه على أربعة أقوال: أحدها أن الصلاة خلفه لا تجوز، وإن لم يلحن في أم القرآن إذا كان يلحن في سواها، قاله بعض المتأخرين تأويلا على ما لابن القاسم في المدونة في الذي لا يحسن القرآن؛ لأنه حمله على الذي لا يحسن القراءة، وقال: إن لم يفرق فيها بين أم القرآن وغيرها، وهو بعيد في التأويل غير صحيح في النظر، والثاني: أن الصلاة خلفه جائزة إن كان لا يلحن في أم القرآن، ولا تجوز إن كان يلحن في أم القرآن، والثالث: أن الصلاة لا تجوز خلفه إن كان لحنه لحنا يتغير به المعنى، مثل أن يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] بكسر الكاف، و{أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] برفع التاء، وما أشبه ذلك، وتجوز إن كان لحنه لحنا لا يتغير به المعنى، مثل أن يقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة: 2] بكسر الدال من الحمد ورفع الهاء من الله، وما أشبه ذلك، وهذا قول ابن القصار وعبد الوهاب، والرابع: أن الصلاة خلفه مكروهة ابتداء، فإن وقعت لم تجب إعادتها، وهذا هو الصحيح من الأقوال؛ لأن القارئ لا يقصد ما يقتضيه اللحن، بل يعتقد بقراءته ما يعتقد بها من لا يلحن فيها، وإلى هذا ذهب ابن حبيب. ومن الحجة له ما روي «أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل المسجد يوما، فمر بالموالي وهم يقرؤون ويلحنون فقال: نعم ما قرأتم، ومر بالعرب وهم يقرؤون ولا يلحنون فقال: هكذا أنزل». وأما الألكن الذي لا تتبين قراءته والألثغ الذي لا يتأتى له النطق ببعض الحروف، والأعجمي الذي لا يفرق بين الطاء والضاد والسين والصاد وما أشبه ذلك، فلا اختلاف في أنه لا إعادة على من ائتم بهم، وإن كان الائتمام بهم مكروها إلا ألا يوجد من يرضى به سواهم. وسيأتي في آخر سماع موسى القول في صلاة الذي لا يحسن القرآن مستوفى، وبالله التوفيق.